الثلاثاء، 22 أبريل 2014

الربيعُ نسيمُ صباحٍ رقراقٌ يداعب الروح، وحمامُ سلامٍ يلتقط حباتِ قمحٍ ألقت بها ملائكة الليل.. وساحةُ المشاة الواسعة الموشاَّة بالسكينة كانت للعابرين سبيلا لا غنى عنه، من بيوتهم إلى أعمالهم بداية النهار، ومن أعمالهم إلى بيوتهم آخره.. جلس في مكانه المعتاد الذي اختاره بعناية بعد خبرةٍ طويلة مع التسوُّل.. كي لا يفلت من المرور بجانبه عابرٌ.. فيكون على مرمى إحسان كلِّ من تسوِّلُ له نفسُه أن يكون محسنا.. ومع أن "عماه" كان واضحا للجميع، إلا أنه وضع قطعةً كرتونية كتب عليها: "أنا ضرير".. كلما أُلْقِيَت إليه قطعة نقدية من عابرٍ للساحة قرَّر أن يكون محسنا، كان يتحسَّسُ موقعَ الصوت بيديه، إلى أن يعثرَ عليها، فيتناولها ويضعها في علبةٍ كانت بجانبه أعدها لجمع ما يجود به العابرون.. تعوَّد على أن تكون أصوات القطع النقدية عند اصطدامها بالأرض متباعدة بسبب قلَّة المحسنين.. وتعوَّد على أن تكون حصيلته اليومية قليلة، لكنها كافية لتأمين طعامه.. لكن ذلك اليوم كان مختلفا.. زيَّنَتْه الملائكةُ بطيفٍ عبرَ الساحة متهاديَ الخطوِ، فتناثر من حوله "هديل الحمام"، وتساقطت "زخات النسيم" على نفوس جميع العابرين، نشوةَ سعادةٍ أحسوها في "الهديل المتناثر" من حولهم وفوق رؤوسهم نُدَفَ عِهْنٍ كان يتراقصُ احتفاءً بالحُسْنِ العابر.. مرَّت بجانبه، اختلست التفاتة عابرة، تجاوزته، لكنها توقفت، ثم عادت إليه.. قرأت المكتوب على القطعة الكرتونية، سهمت لحظة، ثم تناولتها وأخرجت قلما من حقيبة يدها، وقلبتها وكتبت عليها كلاما آخر، ثم وضعتها ليراها العابرون.. طلبت منه أن يبقيها كما هي.. ثم اختفت كما النسمةِ العابرةِ في القيظ.. لم يعترض عليها مع أنها لم تحسن إليه بأيِّ قطعة نقدية.. ذهبت تاركة وراءها الخير الذي جلبته مع خطواتها الأولى وهي تعبرُ الساحة.. لم يمر به عابر دون أن يحسنَ إليه.. اندهش، فرح، وامتلأت العلبة وجيوبه وكل مكانٍ حوله.. الحمام كان يتقاسم معه حبات القمح التي تركتها الملائكة ليلا.. حتى المتسولون الآخرون من المبصرين، لم يغادروا الساحة حتى تقاسموا معه ما جمعوه.. كان يحسُّ بكل شيء دون أن يرى شيئا.. عرف أن السرَّ فيما كتبته الفتاة.. لكن ماذا كتبت الفتاة.. احتار واندهش، وابتسم، وتلمَّس الكلمات ربما تشي بأسرارها لفضول أصابعه.. لكنه اكتفى بطيف الخيال يداعب أنفاسَ قلمِ الفتاة على قطعة الكرتون.. وتفرَّغَ لفرح يومِ تسوُّلٍ لم يعهده من قبل.. في نهاية يومه وقبل أن يغادر المكان مر به الطيف عائدا.. "هاه، كيف كان يومك يا صديقي، أليس أفضل" (؟!) عرفها من صوتها، سألها بلهفة: "كما ترين، ماذا كتبتٍ يا ابنتي حتى حصل كل هذا" (؟!) "لم أكتب سوى ما قالته عيناك".. بإلحاح ولهفة: "وماذا قالت عيناي غير ما كان مكتوبا" (؟!) "نفس ما كتبتَه أنت ولكن بكلماتٍ مختلفة" ألم تقل عيناك: "يا له من يوم جميل، لكني لا أستطيع رؤيتَه" (؟!) ثمَّ تركته ذاهلا يفكر في سحر الكلمات واختفت من جديد.. وخلفها كان "الهديل" سمفونية سلام...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مرحبا بكم فى الموقع الرسمى للكاتب الصحفى محمد محسن ابوالعلا